التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العودة

لقد عاد لتوه من الخارج، زار أسرته وأقام معهم الليلة الأولى، ولكنه فى الليلة الثانية كان قد اختفى بدون أثر، لقد ذهب ليلتقى صديق قديم، صديق من زمن بعيد، عاصره فى جميع مراحل حياته، كان الفتى يحبه لأنه يستطيع زياراته فى أى وقت وبدون مواعيد مسبقة، مهما كان صديقه غاضبا أو هادئا، كان يستطيع الجلوس والتحدث معه. قرر أن يفعلها بالطريقة القديمة، أخذ القطار، وبينما يحجز التذكرة، سأله الموظف عن أى درجة يريد، فقال له بهدوء الأولى، كان السفر قد غيره قليلا، فهو لن يركب الثالثة اليوم لأنه لديه موعد هام. دخل القطار وأخذ بعض الوقت حتى يتذكر طريقة توزيع المقاعد، تذكر أن الدرجة الأولى منقسمة لعربتين،. كانت العربة عبارة عن نصفين، نصف ناحية اليمين ويحتوى على كرسين، ونصف ناحية الشمال ويحتوى على كرسين يفصل بينهم ممر، ظل يبحث عن رقم مقعدة حتى وجده فى منتصف العربة جلس فى مقعده، وراح ينظر للإضاءة الخافتة التي تنبعث من سقف الممر. لم يستطيع حمل نفسه من عدم رؤية عربة الدرجة الثالثة، نزل و دخلها، نظر إليها وفوجئ فى البداية أنها أصبحت بحالة أفضل، فالمقاعد تبدل قوامها والألوان تغيرت وبدت بحالة أفضل من السابق، لكن سكانها لم يتغيروا، مازالت فى وجوههم نفس الملامح والنظرات، كان هناك شباب يبدو أنهم مازالوا يؤدون الخدمة العسكرية، وامرأة ورجل -عجوز- أعياهم الزمن- يبدوا أنهم ذاهبين لزيارة الطبيب، وبعض الموظفين الحكوميين، وفى آخر العربة لمح امرأة قصيرة وسمينة ترتدي عباءة فضفاضة مزركشة بالورد الأخضر، ودت العباءة أن تستسلم من كثرة ارتدائها وترثى حالها. كانت المرأة تحرس طشتها المعدني الملفوف بطرحة خميرية أحادية اللون ، ودت لو تستسلم هى الأخرى، خمن الفتى بأنه يحتوى على الجبن. أنها الفتى نظرته وبدت على شفتيه ابتسامه بسيطة ولمعت عينيه، لأن شىء ما تغير فى هذه المدينة، وضحك فى نفسه عميقا، بأن سكان الدرجة الثالثة لم يتغيروا، صامدين هم رغم الزمان. عاد إلى عربته، كان القطار على وشك التحرك، نظر من النافذة وسأل نفسه كم مضى؟ لم يجد وقتا للإجابة، قاطعت أفكاره سيدة، تبدو فى الأربعين من عمرها، تحمل شنطة سفر كبيرة، وترتدي ملابس سوداء أنيقة عبارة عن بنطلون وجاكت يصل إلى ركبتها، وشعرها قصير مائل للبنى، طريقة لمعان عينيها من وراء نظاراتها، تعكس مدى خبرتها. سألت الفتى عن رقم مقعده، أجاب بعد أن نظر فى تذكرته، فتنهدت وقالت إن مقعدها بجواره، جلست دون أن تفتعل صوتا، بمجرد أن جلست تحرك القطار، تحرك يشق الليل متجها نحو هدفه أو هكذا يظن، فالمجهول دائما ما رافق القطار فى كل رحلاته. كان الوقت فجرا وعند تحرك القطار، أخذت الأمطار تتساقط برفق، وكأنها كانت منتظرة إشارة القطار لتبدأ فى البكاء. كم مضى؟ سأل الفتى نفسه مجددا وهو شارد ينظر إلى عمود نور برتقالى اللون فى المحطة يختفى عن الأنظار بينما تداعب قطرات المطر النافذة. لم يجد جوابا، كان مقتنعا أن صديقه وحده من يحمل الإجابة. فتح هاتفه وأخذ يقرأ فى كتابا إلكترونيا بينما يستمع إلى بعض الموسيقى فى الخلفية. وبينما كان يريح عينيه من القراءة أخذ باله بأن التى تجلس بجانبه تعمل فى المجال العلمى وخاصة الفيروسات لأنها كانت تقرأ بعض الأوراق العلمية ذات الصلة، سألها بفضول ما إذا كانت عالمة فيروسات، أجابت بأنها أستاذة فى قسم الميكروبيولوجى بأحد الجامعات المحلية، وأنها فى طريقها لحضور ندوة منظمة من قبل منظمة الصحة العالمية عن الفيروسات، فهم الفتى الأمر بحكم مهنته، فهو يعرف أن أخطر سلاح فى العالم الآن ليس النووى، إن السلاح القادرعلى الفتك بالبشرية أبسط من هذا بكثير، كل ما يتطلبه الأمر فيروس مهندس وراثيًا

 سألت السيدة الفتى انت بتشتغل ايه؟
 أجاب: لسا هعرف النهارده، أنا يادوبك معايا ماجستير هندسة وراثية من ألمانيا
 سألت: انت مقدم على شغل؟
 رد: مش بالضبط كده ، تقدرى تقولى لسا مقررتش هشتغل فى ايه

 انتهت كلامها، بتعقيبها بأن مجال الهندسة الوراثية رهيب ورائع، ولكنه ليس له مستقبل فى مصر. وافقها الفتى ورد بكلمات من قبل أه، معاكِ حق ، كلامك صح. لكنه لم يكن مقتنعا بالكامل بما تقوله، ولم يرد أن يدخل فى نقاش قبل أن يجلس مع صديقه، فصديقه هو من سيقرر ما هو المستقبل وليس أحدا آخر. ولكنه شعر بفضول تجاهها ،شعر أنها مميزة، لهذا تبادلا معلومات التواصل مثل الايميل و رقم الهاتف. ثم خيم الصمت مجددا على عربة الدرجة الأولى. لطالما لاحظ الفتى أن أحد الفروق الجوهرية بين سكان الدرجة الأولى والثالثة هى الهدوء. فسكان الدرجة الأولى دائما فى حالة هدوء بالرغم من الاضطرابات التى تحيط بيهم وبالرغم من إضطرابتهم الداخلية، بينما سكان الدرجة الثالثة يتشاركون الأغانى والحكايات والبضائع وكل شيء يمكن مشاركته فى القطار. ففى عربة الدرجة الثالثة ليس من الغريب أن يجلس ثلاثة أشخاص على كرسيين، أو أن تجد شخصا نائما فى أمكان وضع الشنط، وليس من الغريب إطلاقا أن تجد نفسك محشورا بين أناس غرباء ولا تستطيع التحرك. نظر الفتى من النافذة ولاحظ أن القطار قد شق الليل وأخرج منه الصباح ،رأى الحقول تغطيها هالة بيضاء بدأت تتلاشى كلما شق القطار الزمان، ولكن الأراضى خالية من المحاصيل الآن. لم يتغير المنظر منذ آخر مرة سافر فيها. أغمض عينيه وسأل نفسه كم ماضى؟ لكن الكمسرى قاطعه ليتأكد من التذكرة، بعدها فكر فى آخر لقاء بينه وبين صديقه قبل أن يمض ويتركه، لم يفهم أبدا من ترك من، هل هو من ترك صديقه؟ لكنه كان مطمئن لأنه يعرف أنه مازال يحمل القدرة على استقباله رغم كل شىء. وصل للمحطة الأخيرة، قام الفتى وغادر القطار بعد أن ودع السيدة. شعر أنه قريب من صديقه، سئل نفسه، حسنا من أين ابدأ؟ ثم توجه إلى حمام المحطة


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اليابان تغرق أيها الجنرال

   هناك الكثير من الأفكار العشوائية الآن في عقلي. الجيش الأمريكي، ورئيس بوركينا فاسو، ارتداد كرات البلياردو. لقد انتهيت اليوم من أول أربعة امتحانات، وأيضاً مقابلة لوظيفة في الجامعة. لقد شعرت البارحة بسعادة غامرة. الحياة أخيراً تبتسم لي؟ كم مرة؟ ما عدد السنوات التي ظلت الأبواب مغلقة في وجهي؟ خيبات الأمل كثيرة لكنها لم تكن أبداً قادرة على كسر إرادتي. لقد تعودت على بذل مجهود بدون مقابل ولكن هذا تغير الآن. كل ما أفعله الآن له مقابل. مؤخراً أشعر بالجنون، أي أنني أترك الأفكار تخرج من عقلي دون تفكير، أنا لا ألبس قناعاً لأي شخص الآن، إذا لم يعجبك تفكيري المجنون، تجنبني أرجوك، هذه هي رسالتي للعالم. أمر بفترة فقر روحي، أعلم هذا وألاحظه ولا أريد أن أعدله، لا أريد أن أنمو روحياً الآن، لا أريد أن أكتسب الحكمة وأذهب إلى الغابة. هناك بعض الأشياء المادية التي أريدها من العالم الآن وأنا أسعى نحوها بوعي. أفتقد أصدقائي، أفتقد قهوة السماحي وليالي الشتاء الدافئة، أفتقد الأفكار الإبداعية التي كنا نبتكرها لنضحك. أفتقد سائقي الميكروباص جديلة الترعة المتهورين، وأضواء الميكروباص الليلية. أفتقد تلك اللح...

عودة الأخ الأصغر

 لقد تغير العالم كثيرًا بقدوم الأخ الأصغر . كانت البشرية قد عانت بالفعل من الكثير مؤخرًا، وكان البشر فى أشد اشتياق للْمُخَلِّص. مع انتهاء الحرب فقَدَ البشر الإيمان بالكثير من المعتقدات البشرية سواء بأراداتهم الخالصة أو أجبروا، تصاعد الأمر لأن فقد أكثرية من البشر الإيمان فى البشرية ككل حتى أنهم أخيرا أدركوا الأولويات الحقيقة بعد سلسلة من المصائب كادت تمحى وجودهم الخافت. لم يعد البقاء وحده هو الأولوية  الأهم، البقاء بجانب الأمان والتطلع للحرية هذا ما يريدوه من الآن وإلى الأبد علمتهم الحرب أن البقاء ليس كافيا، ما الذى يُفرق بين الإنسان والحيوان اذن؟ البقاء فى أمان واستقرار مع التطلع إلى الحرية هذا ما رأيتهم عقولهم فور إنتهاء الحرب  ولكن البقاء والأمان مترابطان مع القوة. أما عن الحرية فكانت ضبابية عليهم، لكنهم أرادوها بشدة، كغريق ينظر إلى رمال الشاطئ. كتائه فى الصحراء رأى جزيرة بعد دهور من غير مياه. وُلد شعورا عالميا بوجوب وجود الحرية  كأحد المتطلبات الأساسية للبشر. وبالطبع أدركوا سريعا أن القوة والحرية متعارضان. الحرية تخلق القوة أو تبددها، بينما تقمع القوة ال...

چيِنْ

عزيزتي  چيِنْ ،   كيف   حالك   مؤخرا؟   غريبة   هي   الحياة   في   تقلباتها .  كنا   البارحة   نجلس   ونضحك   والآن   فرقتنا   المسافات   مجددا .  صحيح،   هل  مازلتي   تحتفظين   بعلم   دولة   نيبال   الذي   أهديته   لك   في   عيد   ميلادك؟   لم   أسمع   منكِ   منذ   سنوات،   لكنك   دائما   في   خاطري .  لماذا   لم   أسأل   عليك؟ لأني   أعرف   مدي   صلابتك   أيها   الصديق   القديم .  كنت   ولازالت   معجبا   بقدرتك   علي   ممارسة   الحياة .  لكن   هناك   شيء   أود   أن   أحدثك   عنه .    في   أخر مرة   تقابلنا   حدثتني   عن   اللعنات .  قلت   لي   ذات   مرة   أنك   تشعرين   بأن   هناك   لعنة   تط...