التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سيمضى

 كان المقهى مطلا على البحر مباشرة يفصله الطريق الرئيسى، ولو جلست فى الخارج لوصل إليك رذاذ البحر، كانت الساعة الخامسة مساءا، بدأت الشمس تبتعد عنا، أو لربما نحن من نبتعد عنها، جلس الفتى مع جومانه على ترابيزة صغيرة فى أخر المقهى ناحية الشمال، خيم جو دافئا، جيمع الترابيزات تبدو وكأنها مشغولة، الجميل فى الإسكندرية أن القهاوى ليست للرجال فقط، إنها ملجأ للرجال والنساء، للكبار والصغار، لكل أشكال الحياة. الجميع يتحدث ويلعب لأ أحد يفكر أو يتأمل، وهذا جعل القهوة حيّة، إنها تحتوى على صوت لا يتوقف، يأتى من مصادر وأماكن مختلفة ولكنه متناغم وليس عشوائى. صوت يحتضنك ويطمئن بأن تتحدث بحرية لن تحاسبك القهوة على آرائك أو مشاعرك. 


-يااه يا جومانه تعرفى امتى أخر أنا كنت فيها هنا 

-نظرت جومانه باستغراب

من حوالى ست سنين بس مفيش اى حاجه أتغيرت، تحسى إن إحنا كمصريين مقاومين لكل أنواع التغير، ويمكن علشان نثبت ده بنينا الهرم، دول بتقع ودول بتقوم وأحنا لسه زى ما احنا


  • ضحكت وقالت : ياعم الناس هنا دماغها تعبانه. 

كانت لجومانه طريقة خاصة بالحديث، فهى تغير درجات صوتها فى كل كلمة تقولها، فلا تعرف إذا كانت تتحدث جادة أم كالعادة هازئة، وما يزيد الأمر صعوبة، إنها عينيها تضيق شيئا فشيئا وتضحك دون أن تبتسم.كانت بشرتها بيضاء وشعرها أسود أعتدت أن أراه مجعد لكنه الآن مختلف، أنه مثل خيوط حريرية. مازالت جميلة، ولكنها كالعادة لا تعتنى بنفسها كثيرا، كانت واحدة من تلك الفتيات التى تفضل الكتب على الاعتناء بمظهرها الخارجى.


صحيح أنت كنت بتدرس ايه برة، أنا كنت عارفه إنك سافرت ألمانيا تدرس، بس لسه مفهمتش انت بتعمل ايه بالضبط 

-انا ياستى كنت بعمل ماجستير فى مجال اسمه الهندسة الوراثية، كنا بندرس ازاى بنبدل جينات الكائنات. كان يعرف أن عليه أن يشرح لها أكثر. أنت بالتأكيد سمعتى عن المحاصيل المهندسة وراثيا، أنا شغال فى نفس المجال بس مش بهندس نبات، قالها وصمت. 

- أومال؟ 

- بهندس بشر

ضحكت ولما تسأل أكثر. سألها سليمان وأنت بتعملى إيه فى السنين الى فاتت دى، أخر مرة كنت قولتلى إنك عايزة تشتغلى فى التعليم. 

  • يااه انت لسه فاكر، بص يا سليمان أنا مش محدده أوى، ده أخر ترم ليا فى الكلية وبفكر اقدم فى وزارة الخارجية 

  • طب تصدقى بإيه، أنت تنفعى تبقى سفيرة، بس محتاجه دولة رايقة، حاجه زى السويد وفنلندا، ولا أقولك لو مبتحبيش الساقعة، روحى نيوزيلندا، جميلة، على ضمنتى. 

  • ضحكت وقالت لا ياعم أنا عايزه أقعد فى مصر 

  • علشان أهلك؟ 

  • أها، ولسه برضه مش مستعديه أسافر واستقل 

  • لم يسألها إذا كانت مرتبطة بأحد أو لا، لقد مضى على صداقتهم سنوات ولا يعرف إذا كان له حق السؤال. 


قطع حديثهم القهوجى بزيه الرسمى الذى لم يتغير طيلة العشر سنوات الذين زار فيهم هذه القهوة. طلب مشروبين لأنه يعلم مسبقا أنها لن تطلب شىء. كانت قطرات الماء بدأت تسقط مجددا، فاطلب كاكاو دافىء ليجلب السرور إلى خلاياه المرتجفة، و قهوة فرنساوي اتباعا لعاداته فى الارتداد على المقاهى. تحدث معها عن رحلته في ألمانيا، وكيف أنه قدم لدراسة الدكتوراه فى أمريكا.وهو الآن منتظرا لرد اللجنة المانحة للمنحة.


كان يحب جومانه كشخص، أنها مختلفة وأحيانا تكون غريبة بعض الشىء. ولطالما أحب المختلفين، لأنه واحد منهم. طور مع الزمن هبة خاصة تجعله قادر على التواصل مع الأشخاص المختلفين والمتميزين. تمنى لها كل التوفيق والسعادة فى العالم، كان يعلم أن جومانه لا تحتاج إلى النصح، فهى بطريقة سوف تمضى بالرغم من كل شىء، وكان يعرف أن صداقتهم ستدوم إلى الأبد. كان لا يحب استخدام كلمة للأبد لأنها غيرعملية، فكل شيء له نهاية، لا شيء يستمر للأبد. لكن وبالرغم من هذا، كان يعلم أن هناك رابط مميز يربطه بجومانه، علاقته معها كما يصفها ضبابية، فهما أصدقاء ولكن ليس بالمعنى الحرفي، بينهما إعجاب متبادل لكنه ليس حب، لكل منهما طريقة المتوازي، لكنها يتقاطعان. شىء خاص، قله فى العالم من يفهمونه. 


أمضى اليوم معها، ولم يسترد وعيه كاملا إلا وهو على متن القطار. كان قد أتخذ القرار عندما قابل صديقه. فتح هاتفه ورأى ايميل القبول في المنحة، لم يفاجئه الأمر كثيرا، فهو كان يعرف أنها يستحقها. أغلق هاتفه ونظر من النافذة الزجاجية المغطاة بطبقة من الماء والبخار، لم يستطع الرؤية جيدا لكنه عزم على المضي إلى الأمام مثل هذا القطار، أن يمضى ولا يتوقف، أن لا ينظر للخلف، أن يصلح جروحه كلما ظهرت. أن يستمر فى البحث عن المعنى، وأن يظل يحارب الظلام، مهما أشتد اليأس. سوف يحاول أن يسد كل الفجوات، وخاصة تلك التى فى قلبه، لقد فقدها، عليه أن يتقبل هذا. ردد كلمات صديقه « أذهب إلى الغرب ولكن عد سريعا، فالشرق هو مكانك» كررها مرات ومرات…


ملحوظة: هذا الجزء هو الأخير فى قصة ترتيبها يبدأ من 

1- القطار

2-العودة 

3- الهبوط

4- المواجهة

5- سيمضى






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

The Forest

Lately, I've been going through new experiences. Yesterday I was in the woods, the forest for the first time in my life. I had one particular idea that kept resonating in my mind. Murakami, what was the name of your novel? But I had a stronger feeling. I was honestly frightened. To me, the forest is a living organism. If it likes me, it welcomes me; if not, it can swallow me whole. Which novel Haruki When I entered, I used the main road. But something inside me whispered, 'Do not be afraid, you will not be swallowed today.' I stepped off the main road to use a narrower, wilder path. The road ahead is a steep, sloppy incline, winding through towering trees. The ground is blanketed with countless fallen leaves, concealing the uneven terrain beneath my feet. Each step is uncertain. I stop and look back, realizing it’s just me and the trees. They watch me as I watch them, and for a moment, we share a quiet appreciation. When I look at them, I don’t see mere wood and branches. I...

چيِنْ

عزيزتي  چيِنْ ،   كيف   حالك   مؤخرا؟   غريبة   هي   الحياة   في   تقلباتها .  كنا   البارحة   نجلس   ونضحك   والآن   فرقتنا   المسافات   مجددا .  صحيح،   هل  مازلتي   تحتفظين   بعلم   دولة   نيبال   الذي   أهديته   لك   في   عيد   ميلادك؟   لم   أسمع   منكِ   منذ   سنوات،   لكنك   دائما   في   خاطري .  لماذا   لم   أسأل   عليك؟ لأني   أعرف   مدي   صلابتك   أيها   الصديق   القديم .  كنت   ولازالت   معجبا   بقدرتك   علي   ممارسة   الحياة .  لكن   هناك   شيء   أود   أن   أحدثك   عنه .    في   أخر مرة   تقابلنا   حدثتني   عن   اللعنات .  قلت   لي   ذات   مرة   أنك   تشعرين   بأن   هناك   لعنة   تط...

الصيف يذهب بعيدًا

  قريب سوف يأتى الشتاء، وسيغطى الثلج كل شىء. ستصبح المدنية واحة بيضاء شبحية. لكن قبل أن يأتى لنتحدث عن البارحة. البارحة كانت لليلة رائعة، لأنى قابلت أناس رائعين. الخريف يزحف، ببطىء تتلون أوراق الأشجار بالأصفر. وعقلى تلون البارحة بالألوان. أنا أحب الأفكار وأنجذب للأشخاص الذين يستطيعون المجادلة وطرح الأفكار. جميلة هى ألمانيا، ورائعة هى روح الألمان.