«نحن لا نعي قيمة الأشياء إلا عندما نفقدها، الشعور بأن الأشياء الجميلة ستدوم ولن تختفى يعطينا نوعا من الأمان الزائف الذى سرعان ما يتطاير مع رياح الخريف ويتساقط مع أوراق الأشجار الخضراء أو الذابلة.»
هبط على الإسكندرية، وداهمته من حيث لا يعلم رياح باردة تحمل رائحة مميزة، اختلطت فى عقله مشاعر متضاربة بين ذكريات تمنى تكرارها ،وبين لحظات ود فيها أن تختفي مدينة الاسكندرية من الوجود إلى الأبد، لطالما أحبها، هنا قد حدث لقائهما الثانى، فى مكتبة اسكندرية ومن بين مئات الآلاف الكتب وجدته، لكنه كان يتهرب منها، لم يكن مستعدا حينها لهذا اللقاء، أدرك لاحقا أنه لم يكن يهرب منها قاصدا، بالعكس كان يريدها بجانبه، فهو يشعر بالأمان والراحة فى وجودها. لقد كان يهرب من نفسه وليس منها، وهذا الهروب سيكلفة عشر سنوات أخرى من البحث حتى يكون مستعدا لمقابلتها.
غادر المحطة،كان كل شىء كما اعتاده، الشىء الوحيد الذى تغير هو واجهة المحطة، لقد ترممت وأصبحت تبدو بصورة أوضح. طالما تعجب من تسمية محطة الإسكندرية الرئيسة بمحطة مصر، كانت المحطة مصممة على الطراز الأوروبى، مثل الذى حاول الخديوي إسماعيل استحداثه فى مصر. خرج من المحطة ونظر فى ساعته فلاحظ أن الوقت مازال مبكرا لرؤية أحد، لكنه كان يعلم أن صديقه ينتظره، ذهب ليتناول الإفطار وبعدها أخرج هاتفه، أول من فكر أن يحدثه كانت ريم أتصل بها ولكنها لم ترد، كان متوقعا لهذا، لقد مضت ست سنوات منذ آخر مرة ألتقى بها، وآخر معلومة عنها أنها كانت تدرس الثانوية في أنجلترا وخمن إنها سافرت إلى أمريكا لاستكمال المرحلة الجامعية. ضحك فى نفسه عندما تذكرها وقال « يااه العيال كبرت»
وبينما يغلق الهاتف، لاحظ أن هناك إيميل جديد، كان من أحد الجهات التي قدم لدراسة الدكتوراه عندها بالخارج، لم يفتحه، ليس الآن، لأنه كان لا يعرف كيف سوف يستجيب إذا رفض أو قبل، فكل شيء قد يتغير بعد مقابلة صديقه، لقد كان هنا لسبب واحد فقط، وهو تحديد الخطوة القادمة، أي طريق سيسلك، الأخطر أم أكثر أمانا، هل سيغامر بكل شيء مجددا أم سيستمر فى الهروب كالعادة، هل سيكمل الطريق وحيدا أم سيجد رفيق يشاركه الدرب، أى حياة سيختار فى الداخل أم الخارج، هل سيكمل البحث عنها بعد كل هذا الزمن؟ كان لديه العديد من الأسئلة لصديقه.
تمشى فى شوارع الإسكندرية الزاخرة بالحركة والحيوية كانت الشمس ساطعة ولكن على استحياء، فالغيوم كانت تسيطر على مملكة السماء، وقادرة على تغيير الأحوال، من النور إلى الظلام، من الوجود إلى الخلاء، لطالما ذكرته الغيوم بأصدقائه متقلبي المزاج. كان متجه إلى قهوته المفضلة فى الاسكندرية، لكنه لن يجلس عليها وحيدا، ففى آخر مرة زار الإسكندرية، كان يريد الهروب منها فى أسرع وقت، أراد أن يبتعد عنها وأن لا يزور تلك المدينة ثانية، حتى صديقه لم يستطيع مساعدته، بالرغم من أنه كان يجلس على قهوته المفضلة ويشرب مشروبه المفضل إلا أن عقله كان يعتصر من شدة الألم، ألم لم يشعر به منذ مدة طويلة، لقد شعر يومها ولأول مرة منذ سنوات بوحدة لا مثيل لها، كانت السماء تمطر مساءا، وكان الجميع فى القهوة يجلسون فى مجموعات يلعبون الدومينو أو يتحدثون وهو كان يجلس وحيدا منزويًا، مرتديا قبعته وبالكاد يمكنك رؤية ملامحه، كان قد صار شبحا. جو القهوة كان دافئا لكنه شعر ببرودة تحاصره هو وحده. جلس ينظر إلى مرتدين القهوة وتذكر أصدقائه الرائعين الذين جلسوا معه هنا ولعب وضحك معهم، تذكر ذكرياته الجميلة في الإسكندرية.
وفكر بمن يحدثه، المشكلة أنه قد مضت على الأقل ست سنوات منذ آخر مرة التقى بها بأحدهم بالإسكندرية، كان هناك شخص واحد فقط أستمر بالتواصل معه عبر تلك السنين، أخذ يبحث عن اسمها فى هاتفه ورن عليها، لم ترد ، فحاول مرة أخرى. وقبل انتهاء المكالمة الثانية ردت.
قال ببتسامة: إزيك يا جومانة معاكِ سليمان
ردت وهي متفاجئة بصوت خافت يدل على استحضارها لصورة شخص من الماضي:
-سليمان إزيك
-: أنا زى الفل، أنتِ فى إسكندرية؟
-بتردد: أه خير
-: كل خير، إيه رأيك نتقابل النهاردة عند المكتبة الساعة أربعة
أخذت بعض الثوانى لتفكر: تمام لما أوصل هكلمك
شعر بالراحة عميقا لأنه سيجلس مع صديقة من الماضى، كان يعرف أن جومانة تتابع دراستها فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة ولكنها فى الأصل تعيش فى الأسكندرية، وهى على الأرجح تخرجت الآن أو فى السنة الأخيرة، لم يكن متاكدا. غير مساره، واتجه نحو المكتبة. قطع تذكرتين من شباك التذاكر كان يعرف أنه لن يستخدمهما واتجه لبوابة الدخول، وقف قليلا فى طابور الانتظار، وعندما عبر نقطة التفتيش الأولى، اتجه شمالا حتى وجد رأس الأسكندر الأكبر مثبتة على قاعدة رخامية طولها مترين تقريبا تقع فى منتصف الساحة الخارجية للمكتبة، وكأنها إشارة بأن الأسكندر مازال يحرص مكتبته. جلس على مقعد أسمنتي بالقرب، لاحظ وجود العديد من الأطفال، لابد أنها رحلات اجازة نصف السنة، شيئا فشيئا كانت شدت الشمس تزداد وكأنها ترحب به، كان مستمتعا بكل هذا إلى أن تذكرها.
مرت عشر سنوات منذ لقائهما هنا، كانت ترتدى بدلة سوداء رسمية وتضع طرحة موف فاتحة اللون وعلى عينيها نظارة بدت وكأنها عديمة اللون، وهو كان يرتدى قميص أزرق.جلسا معا وجها لوجه وأخذ يتحدثا، كانا فى منتصف معرض مفعم بالحركة والضوضاء، لكنهما انعزالا عن العالم، كانا فى بُعد خاص، حيث هم فقط من يمكنهم الوصول إليه، كانت الفتاة متحمسة أكثر منه، كان ينظر إلى عينيها ويحاول أن يواكب ما تقول، اتفقت معه على أن تقدمه لوالدتها وقامت تبحث عنها، كانت الأمور تحدث أسرع مما تخيل، خرجت الفتاة للبحث عن أمها، و ذهب الفتى يبحث عن مكان أو زمان للاختباء، لم يعرف لماذا، لكنه أراد أن يهرب بعيدا بعيدا عن هذا العالم أو يتوقف الزمن عند هذة اللحظة، فهو الآن سعيدا، ولا يريد أن تتعقد الأمور مجددا، لا يريد أن يدور فى دائرة أبدية لا تنتهى، خرج ليستنشق هواء الإسكندرية الذى طالما أحبه. استجاب القدر له، وبينما هو بالخارج، وجد الكثير من رجال الشرطة وسيارات مصفحة، أخذ القليل من الوقت حتى فهم أن رئيس تنزانيا فى زيارة لمصر والمكتبة، شعر بشعور عميق بالراحة، كان ممتنا لرئيس تنزانيا كثيرا، لأنه وجد العذر الذي سيبرر اختفائه. لكنها وبالرغم من كل شىء وجدته و قدمته لوالدتها. وجدته رغم محاولة هروبه لأزمنة منسية وأماكن مهجورة وخاوية.
عندما تذكر كل هذا اجتاحته عاصفة من المشاعر المكبوتة بداخله، دمعت عينيه وشعر أن جهازه المناعى يتهاوى، وهنا قرر أن الوقت حان ليزور صديقه، لقد اكتفى من كل هذا، بحركات تلقائية، وبدون استخدام التفكير خرج من المكتبة مسرعا، أتجه نحو موقف المواصلات، ركب ميكروباص متجه إلى القلعة عازما على مقابلة صديقه الآن.
تعليقات
إرسال تعليق