جلس في المقعد الثالث خلف السائق يفصله عن البحر المضطرب أمواجه نافذة زجاجية تغطيها من الخارج شذرات من الماء، ألقاها البحر من شدة غضبه. كان المقعد يتسع لشخصين، جلس ناحية الباب بجانب فتاة تبدو فى العشرينيات من عمرها، لم يعيرها أي اهتمام، نظر من النافذة المبللة للأمام فرأى القلعة رابضة فى نهاية الأفق صغيرة ولكنها أكثر من جريء على تحدى البحر. إكتمل الركاب وانطلق السائق فى طريقة المتكرر،كان الطريق من المكتبة إلى القلعة طريقا مباشرة، يزداد اعوجاجًا ناحية اليمين كلما اقتربت من القلعة. داخل الميكروباص، او كما يسميه أهل الإسكندرية «مشروع» خيم جوا دافئا حقا، مفعما بالصمت والهدوء، الجميع متأنقين فى ملابسهم الشتوية الذى غلب عليها اللون الأسود.
هدأت نفسه واستعاد تفكيره ببطء، أول شيء خطر على باله هو يومه الأول فى الإسكندرية، كان صغيرا ووحيدا فى الشتاء، زارها وهو ولا يعرف أحدا ولا مكانا فيها ولكن المدينة رحبت به كما رحبت بنابليون، الأمور كانت تحدث من تلقاء نفسها بدون أن يكلف نفسه مجهود، تذكر أن بمجرد خروجه من محطة القطار- سيدى جابر-، لم يتجاوز بضعة أمتار حتى وجود سائق ينادى على اسم المكان الذي أتى لزيارته-فيكتوريا- وكأن السائق كان بانتظاره، وعندما ركب أول مرة شعر بالارتباك لأن سائق الميكروباص كان يبدو إنسانا طبيعيا سويا، ليس كالذى اعتاد عليه فى مدينته، ارتبك مجددا عندما لاحظ أن العملة التى يتعامل بها الاسكندريين هى الجنى وليست الجينه، ولم يفهم طبيعة الفرق بينهما، وحتى يتجنب الإحراج، أعطى للسائق ورقة بخمس جنيهات، ولم يكن منتظرا للباقى، لكن السائق فاجئه وأعطاه باقيا ولم ينتهى الأمر عند هذا الحد، وقام بتشغيل أغنية لحمزة نمرة وأوصله إلى المكان الذى يريده بالضبط!..
بنهاية يومه الأول وبعد عناء توصل إلى استنتاج مفاده، إن الإسكندرانيين يطلقون على الميكروباص اسما آخر وهو «مشروع». فى طريقه للرجوع لمحطة القطار ليلاً، ركب مشروع عبر شارع البحر، وهو الشارع الرئيسى فى مدينة الإسكندرية، كانت تجربة رائعة جعلته منتشيًا،الإسكندرية حقا جميلة ليلاً، كان الطريق الملون يمتد موازيا للبحر إلى ما لا نهاية، وكانت أمواج البحر قوية متدافعة وعالية للغاية، وكأنها تريد سحق المدينة. يومها ساعده كل أهل المدينة، حتى أن هناك شابًا تطوع و أوصله للمحطة و رصيف القطار خصيصا عندما علم أنها المرة الاولى للفتى فى المدينة. لطالما شعرأن الإسكندرية مميزة منذ اليوم الأول الذى زراها، فهى مختلفة عن عالمه القديم، مختلفة فى الطقس والناس ورائحة الهواء والكثير من الأمور الأخرى فكل شىء فيها يبدو وأنه يأخذ طابع خاص، حتى تبدأ بالتعود عليها فتقل جاذبيتها فى عينيك. لكنها فعلا مدينة مميزة بتاريخها وبحرها لطالما شبهها بالرجل العجوز المفعم بالحياة، بالرغم من التجاعيد فى وجهه مازلت عينية المائلة للون الأزرق قادرة على اللمعان. رغم الشيخوخة مازال مصرا على التحرك والاستمتاع بالحياة. هنا كانت هيباتيا الجميلة تُدرس الفلسفة والرياضيات وعلوم الفلك، هنا أتى الإسكندر الأكبر غازيا ومشيدا وعلى خطاه تبعه نابليون. هنا ترقد منارة العالم القديم فى العلم والفلسفة. وهنا قابلها مجددا. وهنا سوف يقابل صديقه.
بعد دقائق من ركوبه وصل المشروع إلى القلعة قاطعا للفتى حبل ذكرياته، مخرجا إياه من عقله. خرج ونظر ناحية اليمين فوجد المسجد مازال قائما،عليه أن يمشى فى طريقا مستقيما ثم ينحرف يمينا حتى يصل لصديقه، السماء على وشك البدء بالبكاء، لكن لسبب ما تراجعت. مضى الفتى في طريقه للقلعة، ظهر على يمينه بعض السفن الثابته لكنه لم يكون متفاجىء، فلقد حاول مرارا عدهم ولكنهم لم يتجاوزوا العشرات، مضى متجنبا كل شيء. تذكرريم، ففى آخر لقاء بينهما قاما بزيارة للقلعة معا، وحاول أن يجد لها الثلاثمائة ألف سفينة التى تحدثت عنهم داليدا في أغنية أحسن ناس ولكن بلا جدوى..
أعتلى الرصيف وكان زاخرا بالباعة والبشر من مختلف الأعمار وحتى حصانا كستنائي اللون للركوب، أصبح البحر أمامه مباشرة، والقلعة على يمينه، انحرف لليمين متجاوزا كل شىء. رويدا رويدا سمع صوتا عميقا لا يعرف مصدره يقول: لا تذهب للقلعة، لا تهرب مجددا، ستشعر بالوحدة، وسترجع خاسرا. بدأت الغيوم تنقشع وتتبدد سامحة لأشعة الشمس البراقة بمعانقة الأرض. اقترب من القلعة ووقف ينظر إليها رافعا رأسه والناس تمضى من حوله، قد سبق ودخلها مرارا، وكان يعرف أنه اذا دخلها فهو يضيع وقته ويخدع نفسه، ويهرب مجددا. كان يعلم أنه إذا دخل القلعة فسوف يشعر بوحدة قاتلة وستؤلمه ذكريات الماضى، ما الفائدة من زيارة مكان تعرفه جيدا وحيدا؟ ألم يحتمى بها محمد كريم قبل استسلامه لنابليون، فهل نفعته؟ على يمينه كان هناك طريق مهيأ يشق نفسه فى البحر و فى آخره الكثير من الصخور الضخمة مربعة الشكل وأخرى تشبه شفرات المروحة المرتبة عشوائيا لمقاومة تقدم البحر بأمواجه الثائرة. تمشى فيه حتى وصل إلى آخره وجلس على رصيف اسمنتي. شرعت اللوحة بالبناء، صار للبحر ثلاثة ألوان، لونا أبيض ناصع ينتج من تصادم الأمواج مع الصخور، ثم يتدرج اللون من الأزرق المخضر على الشاطئ، إلى الأزرق اللامتناهى فى نهاية الأفق. فجأة تغير الجو مجددا، تجمعت الغيوم وغطت السماء كليا وتزامن معها غضب البحر الذي ازدادت أمواجه حدة. غادر الجميع من حوله لكنه بقى.سأل نفسه هل فعلا سيأتى صديقه؟ كانت شذرات الأمواج تصل إليه وأصبح مبللا، لم يعد باستطاعته رؤية شىء، نظارته غطاها رذاذ البحر لكنه لم يحرك ساكنا. اكتملت كل الظروف، تلاقت الغيوم بلون البحر الأبيض، أصبحت السماء رمادية والأفق أمامه أبيض اللون، صار العالم لوحة من اللون الأبيض متدرج التباين، لا يوجد فيها سواه فى الخلفية، أصبح خارج حدود العالم المتعارف عليه حينها سمع صوت صديقه يأتي من الداخل لا من الخارج، ويسأله بصارمة لماذا أتيت؟
أجاب الفتى: أنت تعرف جيدا لماذا أنا هنا
-ماذا تريد؟
-ماذا تريد؟
ساعدنى لأجد اجابتنى
-ولكنك تعرفها مسبقا، أنت تعلم مسبقا إنك لن تبحث عنها، تجاوز هذا.
أنت مخطىء
-خطان متوازيان أنتما.
من الممكن ولكن..
-قاطعه صديقه: توقف عن المدارة، انت لم تأتى هنا حتى تسأل عنها، لقد جئت هنا تبحث عن نفسك، كما فى آخر مرة تقابلنا فيها منذ عشرة أعوام. جوهرك ليس مستقر وهذا يزعجك أكثر من أى شىء.
وهل سأظل هكذا للأبد؟
-لا أدرى
إن كنت لا تدرى وأنا لا أعلم، فمن يملك الإجابة إذا؟
-ربما هناك شخصا ما بالخارج قد يساعدك
أخبرني أى طريق من المفترض أن اسلك؟
-إذهب نحو الغرب ولكن عد سريعا، فالشرق هو مكانك.
ولكنى أود البقاء هنا
-أبقى ولكنك لن تجد شيئا، أصدقائك تفرقوا، وبريقك سينطفئ
لكنك تعرف أني سأمضي وحيدا قويا ومتأنقا كالعادة
-أعلم، ولكن الخواء يسيطرعليك من الداخل، ولهذا أنت هنا
ماذا أفعل إذا؟
-جد نفسك أولا، هكذا ستجدها، وهكذا ستجد أصدقائك
لقد حاولت، لم أجدها أبدا، أنا روح تائهه
-استمر بالبحث، أبطىء،أزحف، لكن لا تتوقف عن البحث
أين؟ لقد سافرت وحسبت أن الأمور ستتغير، ولكنى مازالت كما أنا، ضائع
-هذا لأنك مازالت تبحث عن المزيف، عن الصورة، أنت تبحث بالخارج أكثر والإجابة تكمن في الداخل، جذورك هشة وأضعف العواصف قادرة على اِجتزازك. أنت هنا لأنك فقدت تناغمك الداخلى، عقلك صار أكثر استقرار، ولكن قلبك مازال يؤلمك، ولهذا جئت هنا ظنًا منك أنك لو وجدتها سوف يتوقف الألم، ولكن هذا ليس صحيح، أنت تعلم هذا ولكنك غير قادرعلى مواجهة نفسك، كلانا يعلم أنك إذا قابلتها الآن ستخسر نفسك إلى الأبد، وسوف تنتهى أسطورتك قبل أن تبدأ. وأظنك تعلم مسبقا خطوتك القادمة.
أختفى صديقه بعد محادثة استمرت لثوان، وتركه فى وحدة كونية رهيبة، تلاشت اللوحة البيضاء ببطء، وعاد إلى العالم الطبيعي، تبددت الغيوم، وأدمعت عينيه، كان غاضبا لأن كل ما سمعه كان صحيحا وكان يعرفه مسبقا لكنه بالرغم من هذا ابتسم وقال ضاحكا والدموع لم تفارق عينيه «حسنا، بعض الحقائق تكون مؤلمة». أزال نظارته ليمسحها، ليلتمس طريق العودة. عاد للواقع فعليا عندما انتشلته مكالمة من جونامة، كان يعلم محتواها مسبقا وكان أيضا قد حضر الرد.
-أيوه يا جومانة، قالها برفق
- سليمان بعتذر بس أنا ممكن أتأخر شوية، قالتها بقليل من الخجل
-ضحك ورد: لسه زى مانتى، دايما بتيجى متأخرة، عموما ولا يهمك بس بلاش نتقابل عند المكتبة، اركبى وانزلى عند الجندي المجهول، ولما توصلى رنى عليا وأنا هاجى اخدك
-أوكيه، لما أوصل هكلمك، بااى
تعليقات
إرسال تعليق