التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المشاركات

عرض المشاركات من أبريل, ٢٠٢٠

المواجهة

جلس في المقعد الثالث خلف السائق يفصله عن البحر المضطرب أمواجه نافذة زجاجية تغطيها من الخارج شذرات من الماء، ألقاها البحر من شدة غضبه. كان المقعد يتسع لشخصين، جلس ناحية الباب بجانب فتاة تبدو فى العشرينيات من عمرها، لم يعيرها أي اهتمام، نظر من النافذة المبللة للأمام فرأى القلعة رابضة فى نهاية الأفق صغيرة ولكنها أكثر من جريء على تحدى البحر. إكتمل الركاب وانطلق السائق فى طريقة المتكرر،كان الطريق من المكتبة إلى القلعة طريقا مباشرة، يزداد اعوجاجًا ناحية اليمين كلما اقتربت من القلعة. داخل الميكروباص، او كما يسميه أهل الإسكندرية «مشروع» خيم جوا دافئا حقا، مفعما بالصمت والهدوء، الجميع متأنقين فى ملابسهم الشتوية الذى غلب عليها اللون الأسود. هدأت نفسه واستعاد تفكيره ببطء، أول شيء خطر على باله هو يومه الأول فى الإسكندرية، كان صغيرا ووحيدا فى الشتاء، زارها وهو ولا يعرف أحدا ولا مكانا فيها ولكن المدينة رحبت به كما رحبت بنابليون، الأمور كانت تحدث من تلقاء نفسها بدون أن يكلف نفسه مجهود، تذكر أن بمجرد خروجه من محطة القطار- سيدى جابر-، لم يتجاوز بضعة أمتار حتى وجود سائق ينادى على اسم المكان الذي...

الهبوط

«نحن لا نعي قيمة الأشياء إلا عندما نفقدها، الشعور بأن الأشياء الجميلة ستدوم ولن تختفى يعطينا نوعا من الأمان الزائف الذى سرعان ما يتطاير مع رياح الخريف ويتساقط مع أوراق الأشجار الخضراء أو الذابلة.» هبط على الإسكندرية، وداهمته من حيث لا يعلم رياح باردة تحمل رائحة مميزة، اختلطت فى عقله مشاعر متضاربة بين ذكريات تمنى تكرارها ،وبين لحظات ود فيها أن تختفي مدينة الاسكندرية من الوجود إلى الأبد، لطالما أحبها، هنا قد حدث لقائهما الثانى، فى مكتبة اسكندرية ومن بين مئات الآلاف الكتب وجدته، لكنه كان يتهرب منها، لم يكن مستعدا حينها لهذا اللقاء، أدرك لاحقا أنه لم يكن يهرب منها قاصدا، بالعكس كان يريدها بجانبه، فهو يشعر بالأمان والراحة فى وجودها. لقد كان يهرب من نفسه وليس منها، وهذا الهروب سيكلفة عشر سنوات أخرى من البحث حتى يكون مستعدا لمقابلتها.  غادر المحطة،كان كل شىء كما اعتاده، الشىء الوحيد الذى تغير هو واجهة المحطة، لقد ترممت وأصبحت تبدو بصورة أوضح. طالما تعجب من تسمية محطة الإسكندرية الرئيسة بمحطة مصر، كانت المحطة مصممة على الطراز الأوروبى، مثل الذى حاول الخديوي إسماعيل استحداثه فى ...

العودة

لقد عاد لتوه من الخارج، زار أسرته وأقام معهم الليلة الأولى، ولكنه فى الليلة الثانية كان قد اختفى بدون أثر، لقد ذهب ليلتقى صديق قديم، صديق من زمن بعيد، عاصره فى جميع مراحل حياته، كان الفتى يحبه لأنه يستطيع زياراته فى أى وقت وبدون مواعيد مسبقة، مهما كان صديقه غاضبا أو هادئا، كان يستطيع الجلوس والتحدث معه. قرر أن يفعلها بالطريقة القديمة، أخذ القطار، وبينما يحجز التذكرة، سأله الموظف عن أى درجة يريد، فقال له بهدوء الأولى، كان السفر قد غيره قليلا، فهو لن يركب الثالثة اليوم لأنه لديه موعد هام. دخل القطار وأخذ بعض الوقت حتى يتذكر طريقة توزيع المقاعد، تذكر أن الدرجة الأولى منقسمة لعربتين،. كانت العربة عبارة عن نصفين، نصف ناحية اليمين ويحتوى على كرسين، ونصف ناحية الشمال ويحتوى على كرسين يفصل بينهم ممر، ظل يبحث عن رقم مقعدة حتى وجده فى منتصف العربة جلس فى مقعده، وراح ينظر للإضاءة الخافتة التي تنبعث من سقف الممر. لم يستطيع حمل نفسه من عدم رؤية عربة الدرجة الثالثة، نزل و دخلها، نظر إليها وفوجئ فى البداية أنها أصبحت بحالة أفضل، فالمقاعد تبدل قوامها والألوان تغيرت وبدت بحالة أفضل من السابق، لكن سك...

القطار

كان يركب القطار، كٌتب على التذكرة إنها الدرجة الثانية ولكن فى الواقع كان القطار درجتين فقط، الأولى والثالثة إما الثانية فلم تكن توجد سوى فى مخلية قاطعى التذاكر. كانت الدرجة الثالثة درجته المفضلة، ليس لأنه فقير، فى الحقيقة لقد كان معتادا دائما أن يركب الدرجة الأولى، ولكن فى أحد لليالى الشتاء، وعلى رصيف محطة سيدى جابر بالإسكندرية، تجاذب أطراف الحديث مع رجل غريب، وأقنعه أن عليه أن يركب الدرجة الثالثة ليرى أناس مختلفة. دخل القطار وأخذ يبحث عن مكان بجانب الشباك، فجأة انتشر صوت أم كلثوم، كان هناك شخص ما يستمع إلى أغاني أم كلثوم، ولكنه لم يكن يملك سماعات، فقرر أن يجعل جميع العربة تستمتع إلى أم كلثوم، كان الوقت فجرا ولم يشتكى أحد، فهى بداية طيبة لليوم. جلس الفتى ووضع سماعته فى أذنيه، لكنه فى  الحقيقة لم يشغل أى أغانى، فلقد كان مازال يستمع إلى أغاني أم كلثوم. تحرك القطار وتحركت معه عقارب الساعة، أختفى الظلام تدريجيا، وأخذ يحل محله حالة وسطية من الهدوء تربط بين الظلام والنور، تدريجيا بدأ الصباح يعلن عن نفسه بروائحه وأصواته وألوانه البيضاء. بدأ بعض الركاب من كبار السن يشتكون من صوت أم كلثو...